EN
:  حجم الخط
الصوم والنوم

مع اقتراب شهر رمضان المبارك، نود الحديث عن التغيرات التي تصيب نظام النوم في المجتمع السعودي. فقد ارتبط شهر رمضان في ذهن الكثير من الناس بالسهر ليلاً والنوم نهارًا. وهذا النمط من الحياة يختلف من بلد مسلم إلى بلد آخر؛ حيث يبدو أن العادات السائدة في المجتمع تؤثّر في نمط حياة الفرد خلال الشهر الكريم. ولكن في المملكة كما يعرف الجميع ومن خلال جميع الأبحاث المحلية، يحدث تغير مفاجئ وسريع في نظام النوم.

من ناحية أخرى فإن التغير السريع في نمط تناول الطعام من النهار إلى الليل (الصوم خلال النهار والإفطار في الليل) يصاحبه بعض التغيرات العضوية (الفسيولوجية) في الجسم.

لذلك يتساءل الكثير، هل يؤدي الصيام خلال شهر رمضان إلى زيادة النعاس والنوم؟

في هذا المقال، سنحاول استعراض نتائج بحث علمي جديد قمنا به، ونشر الشهر الماضي (أبريل 2017) في مجلةSleep & Breathing  المتخصصة.

المقال استعرض الفرق بين تأثير الصوم على فيزيولوجية الجسم ومراكز التحكم في النوم واليقظة في المخ وبين تأثير تغير نمط الحياة خلال شهر رمضان وتأثير ذلك كله في النوم.

كيف يؤثّر تغير نمط الحياة خلال رمضان في النوم؟

يرتبط شهر رمضان لدى الكثير بالسهر خلال الليل. وتحدث تغيرات في نسق حياة المجتمع ككل مما يساعد على السهر خلال الليل. فساعة بدء الدوام تتأخر خلال رمضان وتنشط المحال التجارية حتى ساعة متأخرة من الليل وكذلك القنوات الفضائية وتكثر اللقاءات الاجتماعية بين الأقارب والأصدقاء حتى ساعة متأخرة من الليل. وينتج عن السهر نقص حاد في عدد ساعات النوم خلال الليل لدى البعض مما قد يسبب الخمول والنعاس وتعكر المزاج خلال النهار.

وقد وجدنا في دراسة أجريناها على طلاب كلية الطب (عينة مكونة من 56 طالبًا وطالبة) من عدة سنوات عندما كان رمضان يوافق وقت الدوام. ووجدنا أنه لا  يوجد اختلاف في مجموع ساعات النوم التي ينامها الطالب خلال شهري شعبان ورمضان؛ فقد نام الطلاب نفس عدد الساعات خلال شهر شعبان والأسابيع الثلاثة الأولى من رمضان. ولكن الاختلاف كان ظاهرًا وجليًا في مواعيد وقت النوم والاستيقاظ. فقد تأخر وقت النوم لدى الطلاب من الساعة 11:30 مساء إلى نحو الساعة الثالثة فجرًا خلال الأسبوع الأول من رمضان، واستمر هذا التغير في الأسابيع التالية، وتأخر وقت الاستيقاظ من الساعة 6:30 صباحًا إلى الساعة 8:45 صباحًا خلال الأسبوع الأول من رمضان والساعة 9:15 صباحًا في الأسبوع الثالث من رمضان. ولم يصاحب ذلك تغير في عدد أو مدة الغفوات خلال النهار.

والمفارقة أنه على الرغم من حصول الطلاب على نفس عدد ساعات النوم فإنهم كانوا يشتكون من زيادة حادة في النعاس خلال نهار شهر رمضان، وهذا قد يعزى إلى احتمالات منها: التغير المفاجئ في مواعيد النوم والاستيقاظ، احتمال وجود تغيرات فيسيولوجية مصاحبة للصيام كتغير إفراز هرمون النوم (الميلاتونين) خلال الصوم، أو احتمال وجود بعض العوامل النفسية أو تغير المزاج التي تصاحب الصيام وتؤثر في النوم. وتبقى كل الاحتمالات السابقة نظرية وتحتاج إلى تأكيد.

هل تحدث تغيرات فيسيولوجية تؤثّر في النوم خلال الصيام؟

هناك بعض العوامل التي قد تؤثر في فيسيولوجية النوم خلال الصيام. فتغير نمط ومواعيد ونوعية الأكل الفجائية من النهار إلى الليل قد ينتج عنها زيادة عمليات إنتاج الطاقة (الأيض) خلال الليل مما قد يؤدي إلى زيادة درجة حرارة الجسم خلال الليل. ففي العادة تنقص درجة حرارة الجسم نحو نصف درجة مئوية قبل النوم مما يساعد على النوم، ولكن نتيجة لزيادة الأكل في رمضان خلال الليل قد ترتفع درجة حرارة الجسم مما قد يؤدي زيادة النشاط وعدم الشعور بالنوم خلال الليل. ويتبع ذلك خلال الصيام انخفاض درجة حرارة الجسم أثناء النهار والشعور بالنعاس أو بصورة مبسطة تغير الساعة الحيوية في الجسم. وهذه إحدى النظريات المطروحة عن علاقة الصوم بالنوم ولها ما يدعمها من الدراسات.

هل يؤثر الصوم على الساعة البيولوجية وإفراز هرمون الميلاتونين؟

في بحث نشرناه سابقاً (عام 2005) لم نجد أي تغير مهم في النظام (الإيقاع) اليومي لإفراز هرمون النوم (الميلاتونين) خلال الشهر الكريم.

كما أن بحثا جديدا قمنا به وسينشر في شهر يوليو2017 في مجلةAnn Thoracic Med  درسنا فيه تأثير الصوم على إفراز هرمون الميلاتونين والذي تم قياسه في الدم على مدار 24 ساعة، كما تمت السيطرة على جميع العوامل التي تؤثّر في إفراز الهرمون مثل وقت النوم، والتعرض للضوء والنشاط الجسدي، ولم نجد أي تغير في مستوى الهرمون خلال الصوم.

هل يسبب الصوم النعاس؟

أظهرنا في أكثر من بحث أنه عند الحصول على نوم كافٍ بالليل وطعام متوازن، والتحكم في مستوى الإضاءة ليلاً، فإن الصوم لا يؤثر على اليقظة أو التركيز. وهذا يناقض ما يعتقده كثير من أن الصوم يسبب النعاس. وقد أظهرت البحوث التي أجريت على حيوانات التجارب، أن نقص تناول السعرات الحرارية يزيد اليقظة ولا يسبب النعاس.

وهناك نظريات عدة لزيادة التركيز خلال الصوم سنتعرض لإحداها في هذا السياق. حيث يعتقد أن أحد أسباب زيادة اليقظة والتركيز هو زيادة إفراز مادة الأوريكسين. وتعتبر مادة الأوريكسين إحدى النواقل العصبية المهمة التي تفرز من مركز في المخ يعرف "بالمركز التحت المهادي". وهي مادة مهمة تسبب اليقظة. كما أنها تزيد إفراز الكثير من النواقل العصبية الأخرى التي تزيد اليقظة في المخ مثل السيروتونين والهيستامين. وقد أظهرت الأبحاث أنه خلال الصوم التجريبي يزداد إفراز مادة الأوريكسين في المخ عند حيوانات التجارب. وفي بحث جديد أنهيناه حديثاً وهو في طور النشر، وجدنا أن الصوم خلال شهر رمضان يزيد من الناقل العصبي المسبب لليقظة (الأوريكسين) خلال النهار وينقصه خلال الليل.

هل يؤثر الصيام على التركيز والقدرات الذهنية؟

في دراسة سابقة نشرت (Behavioral and Brain Functions 2013)، قمنا بها على عدد من المتطوعين الأصحاء الذين خضعوا لعدد من اختبارات التركيز مثل سرعة ردة الفعل، واختبار جونز للتركيز وسرعة وميض (رمش) العين (وهو أحد اختبارات الموضوعية لقياس زيادة النعاس من دون نوم) قبل الصيام ومن ثم طلب منهم الصيام لمدة أسبوع في شعبان خارج رمضان (حتى نسيطر على التغيرات في نمط الحياة التي تصاحب رمضان) وأعيدت كل القياسات، وبعد ذلك صاموا رمضان وأعيدت القياسات خلال صيام رمضان. وخلال جميع مراحل البحث، حصل المتطوعون على نفس ساعات النوم ونفس الغذاء ونفس كمية السعرات الحرارية ونفس كمية التعرض للضوء. وأظهرت النتائج أن الصيام لا يقلل من التركيز أو سرعة ردة الفعل ولا يسبب النعاس.

كما أن أبحاثاً حديثة قام بها باحثون آخرون لم تظهر أي نقص في التركيز خلال الصوم إذا حصل الصائم على نوم كافٍ بالليل. وآخرها بحث أجري في الدنمارك ونشر الشهر الماضي (أبريل 2017)، أظهر أن الصوم لم يؤثر على والذاكرة، والوظائف التنفيذية، والتركيز.

لماذا إذاً يشعر الناس بالنعاس خلال الصوم؟

بينت الأبحاث أن تغير نمط الحياة خلال شهر رمضان من ناحية التعرض للضوء ذي الشدة العالية خلال الليل، والإفراط في الطعام ليل والسهر حتى ساعات الفجر (وليس الصوم)، هو ما يسبب تغير الساعة البيولوجية وهو ما ينتج عنه اضطراب نظام النوم، واختلال جودة النوم والشعور بالنعاس في النهار.

نصائح للصائمين:

مما سبق، تتركز النصائح للصائمين خلال الشهر الكريم على الانتظام في نمط الحياة اليومي وعدم التغير المفاجئ في مواعيد النوم والاستيقاظ، فنوم النهار لا يغني عن نوم الليل. لذلك ينصح القارئ الكريم بالحصول على ساعات نوم كافية خلال الليل والحصول بعد ذلك على غفوة قصيرة خلال النهار إن أمكن. كما أن الإفراط في الأكل خلال الليل وبالذات قبل النوم يؤدي إلى اضطراب النوم وزيادة ارتداد الحمض إلى المريء مما يؤثر في جودة النوم. وتزداد أهمية ما سبق ذكره في حق الأطفال، حيث يجب على الوالدين مراعاة حصول أطفالهما على نوم كافٍ خلال شهر رمضان.

 

أ.د. أحمد سالم باهمام
كلية الطب-جامعة الملك سعود
أستاذ واستشاري أمراض الصدر واضطرابات النوم
مدير المركز الجامعي لطب وأبحاث النوم
Share